أرقام في عالَم صناعة الغذاء داخل المملكة.. رحلة في التاريخ
كانت بداية التصنيع الغذائي في المملكة العربية السعودية خجولة عام 1953م، بإصدار الترخيص الأول لثلاثة مصانع، مصنعان للثلج أحدهما في مكة المكرمة والآخر في جدة، ومصنع للمشروبات الغازية في جدة أيضًا.
نجحت تلك الخطوة، وكان الحافز هو حاجة السوق إلى منتجات هذه المصانع في المنطقة الغربية، لتوافد الحجّاج ومناخ المنطقة الحار، وعدم وجود ثلاجات منزلية في ذلك الوقت.
توالى إنشاء مصانع الغذاء في المملكة نتيجة لمعطيات السوق والتطوّر بوتيرة مصنع أو مصنعين كل عام حتى 1965م، وحذا بعضها حذو المصانع الأولى، فأقيمت مصانع ثلج في المدينة المنورة ومكة المكرمة والرياض وينبع، وأُنشئت أنواع صناعة جديدة مثل البسكويت والحلوى التي أقيم مصنعٌ لها في جدة عام 1954م، والمعكرونة التي أقيم مصنعها الأول في مكة في السنة التالية.
ومع التنامي المتدرج لعدد السكان وتزايد نسبة الحجاج كل عام واستثمار المملكة في صناعة النفط، ازدادت قدرة السكان الشرائية ازديادًا ملحوظًا، ولذلك راح معدل إنشاء المصانع يزداد ليصل إلى 3 مصانع في العام، لتلبية طلب متزايد لمنتجات الغذاء، ولتحل الأغذية المحلية محل المستوردة من الخارج.
30 عامًا
في 30 عامًا من بداية صُنع الغذاء، قفز عدد المصانع من 3 إلى 43 مصنعًا، إلا أن 10 منها توقفت عن الإنتاج لتكرار إنشاء مصانع منتجات محدودة هي المياه الغازية والألبان والحلوى، فأدّى الأمر إلى اكتفاء السوق بالناتج المحلي منها وتشبعها بها.
تدارك المستثمرون خطأهم، فتنوع نشاط صناعة الغذاء بعدما حُصر مدة بين إنتاج الثلج والمشروبات الغازية والخبز، وبذلك خفّت حدة المنافسة بين المنتجات المحلية المتشابهة.
وفي العام 1973م، تغيرت الصورة تغيرًا مثيرًا بسبب الطفرة الاقتصادية، فقد أدت زيادة كبيرة في سعر النفط إلى زيادة الدخل القومي من ناحية، فوجهت نسبة منه لتنمية قطاع الصناعة بإنشاء صندوق التنمية الصناعية والمناطق الصناعية، ومن ناحية أخرى تصاعدت وتيرة الوفود إلى المملكة للعمل في القطاعين العام والخاص على نحو لم يسبق له نظير، فزاد نمو مصانع الغذاء إلى نحو 15 مصنعًا في العام، حتى بلغ مجموع عدد مصانع الغذاء السعودية في العام 2006م، 605 مصانع.
تُشير التقارير إلى أن المملكة اكتفت اكتفاءً ذاتيًّا في بعض هذه الميادين، كصناعة الألبان، ووفرت نسبة جيّدة من بعض الأغذية الأخرى تراوح بين 50% و%60، كالسمك والدواجن، وثمة توجّه مُتنامٍ لتوفير هذه المنتجات للسوق المحلية وتصدير الفائض منها، إذ زاد مجموع المبالغ المستثمرة في هذا القطاع إلى 25 بليون ريال، وعدد العاملين في مصانعه إلى 66 ألف عامل، وكانت النتيجة زيادة قيمة الصادرات إلى ما يتجاوز 5 مليارات ريال. ويظهر نجاح صناعة الغذاء السعودية أكثر ما يظهر في تفصيله.
وبناءً على نِسبة نمو إنتاج الحليب الخام في الأعوام الماضية، تُشير الدراسات إلى أن إنتاج الحليب سيزيد 5% في السنة، ويعني هذا إتاحة فرص استثمار جديدة وواعدة لصنع المنتجات الثانوية؛ كالقشدة الطازجة والأجبان وغيرهما، وبالتالي قيام مصانع جديدة تقلل المستورد وتسمح بتصدير الفائض إلى أسواق الخارج.
صناعة الدواجن قطاعٌ آخر يشهد نموًّا ملحوظًا قياسًا ببدايته، إذ قفز الإنتاج من سبعة آلاف طن في السنة عام 1971، ليبلغ 425 ألف طن عام 2000، ويواصل نموه ليبلغ إنتاج سنة 2006، 535 ألف طن. وقد وفّر نسبة اكتفاء ذاتي تفوق 60% للدجاج اللاحم، وتزيد على 106% في إنتاج بيض المائدة.
سر النجاح
أرقام تثبت نجاح التجربة، فما الذي دفع بهذه الصناعة إلى هذه القفزات إذا جاز التعبير؟ وما الذي ميَّز صناعة الغذاء السعودية عن غيرها من الصناعة العربية؟
هناك أسباب عامة تكاملت لتنشئ حالة إتقان وجودة مهدّت لنجاح واعد ومتنامٍ، منها توجه المملكة لدعم صناعة الغذاء وتطويرها لدورها الاستراتيجي المهم في ضمان أمن البلاد الغذائي، حيث تعتمد خطط التنمية الاقتصادية الخمسيّة منذ نشأتها في بداية سبعينيّات القرن الماضي، سياسة واضحة ترمي إلى تنمية قطاع الإنتاج الزراعي وصناعة الغذاء لبلوغ الهدف الذي تنشده المملكة بتقليل الاعتماد على استخراج النفط الخام وتصديره وتنمية مصادر الدخل الوطني.
كما أعطت رؤية المملكة 2030 أولوية قصوى لصناعة الغذاء، وهو ما أدى إلى قفزات في ذلك المجال بخلاف تنمية الكادر البشري السعودي، فقد حصلت كثير مِن مصانع الغذاء على شهادات الجودة العالمية المعروفة بالأيزو (ISO)، إلى جانب حصول عددٍ منها على شهادة تحليل المخاطر ونقاط الرقابة الحرجة المعروفة بالهاسب (H. A. CCP). وأسهم هذا كُلّه في ولادة ثقة مطمئنة ومُعدية للمستهلك المحلي أولًا والعربي ثانيًا، بمختلف المنتجات الغذائية التي صنعتها المملكة.